أميل لحود يكشف خفايا رضوخ السلطة للضغوط الأمريكية
بقلم: ياسين عز الدين
دار كلام كثير حول دوافع السلطة ومحمود عباس للرضوخ أمام الطلب الصهيوني لتأجيل مناقشة تقرير جولدستون وذهبت بعض التحليلات لاختزالها في شركة جوال أو تسجيلات تدين عباس، إلا أنه من السذاجة اختصار القضية بذلك، فما رأيناه هو استمرار لنهج عمل السلطة منذ إنشائها قبل 15 عاماً.
ولكي نفهم الكيفية التي يمارس الأمريكان من خلالها الضغوط على السلطة يوضح لنا الرئيس اللبناني السابق إميل لحود الأساليب الأمريكية عبر رواية تجربته الشخصية مع هذه الضغوط، وقد روى لنا تجربته في برنامج "زيارة خاصة" الذي عرض على فضائية الجزيرة في 21/3/2009.
تجربة لحود مع الضغوط الأمريكية:
تحدث الرئيس لحود في البرنامج عن تجربته في الرئاسة، وكان مما تحدث عنه تجربتين: التجربة الأولى بعيد الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان عام 2000م، حيث كانت تجري اتصالات في الأمم المتحدة لاستصدار قرار بأن الصهاينة قد أتموا انسحابهم من جنوب لبنان وأنهم ألتزموا بقرار 425.
اتصلت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت بالرئيس لحود لتقنعه بأن يقول لبنان في مجلس بأن الانسحاب تم، ونشير هنا إلى أن الحديث لم يكن عن مزارع شبعا فتلك قضية خلافية خارج النقاش بل كان عن الانسحاب من باقي مناطق جنوب لبنان إلى ما يسمى الخط الأزرق، حيث كانت الحكومة اللبنانية تقول أن الانسحاب لم يتم.
طلب لحود من أولبرايت أن يتأكد من الأمر وبالفعل اتصل بأحد الضباط المختصين وقال له الضابط أنه بقي 18 كيلومتر مربع لم يتم الانسحاب منها، أخبر لحود أولبرايت أنه لا يستطيع لأن الانسحاب لم يتم والقصة واحد اثنين ثلاث.
لم تقنع أولبرايت بجوابه وبدأت بمحاولات لإقناعه بالموافقة على القرار، بل عرضت عليه أن يخرج أمام وسائل الإعلام ويقول أن الانسحاب لم يتم، لكن في نفس الوقت يطلب من سفيره في الأمم المتحدة أن يضع ورقة بيضاء (أي أن يمتنع)، طبعاً لحود رفض واستمر النقاش طويلاً تخلله تهديدات من الوزيرة الأمريكية التي قالت له في آخر المطاف هل تعلم مع من تتكلم؟ أنت تتكلم مع وزيرة الخارجية الأمريكية ومع الأمم المتحدة، هل تعرف ماذا يعني هذا؟ لحود لم تعجبه كلماتها وأجابها بأن هذا معناه أن الساعة الرابعة صباحاً وأنا نعسان وأغلق الهاتف في وجهها.
وكانت نتيجة رفضه للضغوط الأمريكية أن اضطر مجلس الأمن إلى إرسال خبراء مساحة إلى جنوب لبنان لترسيم الخط الأزرق على الأرض وباستخدام أكثر الأجهزة تطوراً لرسم الخط الأخضر، واضطر الصهاينة للإذعان، واستعاد لبنان الـ 18 كيلومتر مربع التي كان يطالب بها، تصوروا لو قبل لحود بالضغط الأمريكي، ما كان سيحصل؟
أترككم مع بعض مما قاله في البرنامج:
.... قالت لي طيب عملت شغل كثير منيح وكذا بس بدنا نخلص كلنا مجتمعين، قلت لها ما فيني، قالت لي كيف؟ قلت لها أنا لو ملكي بأعطيك إياها -مثل كل مرة بأقول لهم- بس هيدا مش ملكي ما فيني، إذا في متر بدي أقول لك ما فيني، في 18 مليون متر بدنا إياهم، قالت بس كلهم بدهم يمشوا، أول يوم فقط وقتها روسيا كانت قائلة لا، قلت لها أنا ما رح أقبل، قالت لي اطلع قل بالإعلام مش قبلان ونحن منعملها وسفيرك بيحط ورقة بيضاء، قلت لها بدي أحط ورقة أنه ما صار، ضلت من الساعة 11 للساعة 4 الصبح...
التجربة الثانية له كانت مع القمة العربية في بيروت عام 2003، والتي شهدت طرح ما تسمى المبادرة العربية للسلام، فتكلم الرئيس لحود كيف عرض عليه وزير الخارجية السعودي المبادرة، فقال له لحود لكنها لا تحتوي على حق العودة، فقال له الوزير السعودي الجملة المعتادة "العرب كلهم موافقين"، إلا أنه أصر على تضمين حق العودة، كما رفض لحود أن يلقي عرفات كلمة في افتتاحية المؤتمر عبر الأقمار الصناعية، لأنه خشي أن يوافق عرفات على المبادرة العربية كما هي (دون حق العودة)، ويومها خرج لحود بحجة أنه ربما تظهر نجمة داوود خلف عرفات وهو يلقي الكلمة.
لم يتركه المعتدلون العرب وبدأوا بمناقشته ومحاولة إقناعه بتمرير المبادرة العربية، نسوا صديقهم عرفات الذين كانوا راهنوا عليه أن يحرج لحود بإعلانه الموافقة على المبادرة العربية، كان وزراء الخارجية العرب يصرون على تمرير المبادرة كما هي فيما كان لحود يصر على إضافة حق عودة اللاجئين، ويروي لحود واصفاً التدخل الأمريكي السافر والمباشر في المشاورات التي سبقت القمة:
.... قلت له مائة مرة تفشل [القمة العربية] ولا أنا أحمّل ضميري وأحط شيئا ضد الدستور اللبناني، ما رح أرضى. صار الأخذ والرد من الثمانية ..... ويبقى يتصل الوزير سعود فيصل بباول [وزير الخارجية الأمريكي[ وباول ما بعرف مع مين يتصل ويرجعوا لعنا، آخر شي قال منحطها [أي فقرة حق عودة اللاجئين] خارج المبادرة، قلت له لا، العرب بدهم يقبلوا بالمبادرة العربية بده يكون بقلبها، رجعنا نصف ساعة مشارعة، آخر شيء صارت 11 ونصف قال خلص منحطها، حطيناها....
وشرح لحود كيف كانت وزارة الخارجية توجه وزراء الخارجية العرب عن بعد، ففي لحظة من اللحظات كان الوزراء يتركون المشاورات ليتصلوا بوزير الخارجية الأمريكية ليطلبوا رأيه (أو إذنه سموها كما شئتم)، وهو ما يذكرنا بزيارة عمر سليمان بعد انتخاب أوباما إلى الولايات المتحدة لكي يطلب الإذن من الأمريكان إبرام مصالحة فلسطينية لا تتضمن الاعتراف بشروط الرباعية، فكان أن رد على أعقابه بإصرار الإدارة الأمريكية على التمسك بها.
السلطة الفلسطينية والضغوط الأمريكية:
لاحظنا كيف يتعامل الأمريكان ويمارسوا ضغوطهم عن بعد وبعيداً عن الأنظار، كما رأينا كيف عرضت أولبرايت على لحود أن يخرج على وسائل الإعلام ليعارض فيما يوجه مندوبه في مجلس الأمن ليمرر القرار.
ونجد نفس النمط مع السلطة الفلسطينية، فكلنا سمعنا عباس يصرح أنه لن يجتمع مع نتنياهو إلا إذا جمد الاستيطان، وعندما ضغط عليه الأمريكان واجبروه على حضور القمة الثلاثية في نيويورك، اضطر للاذعان لكن اعلامياً حاول الظهور بمظهر المتمسك بموقفه وأن هذا ليس تفاوضاً بل عرض لمطالبنا، القشور لدى الأمريكان ليست مهمة، المهم أنه التزم وحضر، وبعدها ليصرح للإعلام ما شاء.
في نهاية الحرب على غزة قدمت قطر والباكستان مشروع قرار لإدانة العدوان الصهيوني في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبتوجيه أمريكي تدخلت السلطة وأسقطت المشروع، وطلبت من مؤيدي المشروع التراجع عنه، وقدمت مشروع قرار توافقت عليه مع الاتحاد الأوروبي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، بحجة أنه يجب عدم خسارة أصوات أوروبا - أما خسارة مضمون القرار فليست مشكلة! ويومها امتنعت عدد من الدول مثل إيران وفنزويلا وأندونيسيا عن التصويت على القرار المائع لأنه لم يدن الكيان الصهيوني بشكل واضح.
عدم خسارة أصوات أوروبا هي الطريقة المحترمة للقول أنهم خضعوا للضغوط الأمريكية، وتعدل القرارات بحيث لا تتجاوز خطوطاً حمراء تضعها أمريكا والكيان الصهيوني، ومثل هذا الدور كانت السلطة تريد لعبه في مجلس حقوق الإنسان عندما قبلت تأجيل التصويت على قرار اعتماد تقرير جولدستون بهدف الحصول على تأييد الدول العظمى، بمعنى آخر تمييع القرار وإفراغه من مضمونه.
وبما أن منظمة التحرير (وحركة فتح) وضعت نفسها رهينة بيد الاحتلال عندما عادت وفق اتفاق أوسلو، فإنها قدمت نفسها أداة طيعة بيد الأمريكان والصهاينة، ابتداءً من تشجيعها للدول العربية من أجل إقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني بحجة مساعدة عملية السلام ففتحت الطريق أمام الصهاينة لافتتاح المكاتب التمثيلية في المغرب وتونس وقطر، وفتح سفارة في موريتانيا.
ووصل الأمر عندما تزايد الضغط الشعبي الموريتاني من أجل إغلاق السفارة الصهيونية خلال انتفاضة الأقصى نصح أبو مازن للمسؤولين الموريتانيين أن لا يغلقوها لأن وجدها "يخدم القضية الفلسطينية"؛ أي يخدم استمرارية السلطة، فالرهينة دائماً تطرح مطالب محتجزها. وبقيت السفارة إلى أن وقع العدوان على غزة بداية العام الحالي ولم يعد مقبولاً لدى القوى السياسية والشعبية الموريتانية مثل هذه المبررات، وأغلقت السفارة دون اعتبار لموقف السلطة.
ولا ننسى دور الهلال الأحمر الفلسطيني التابع للسلطة في إدخال منظمة "نجمة داوود الحمراء" في الجمعية العامة للهلال الأحمر والصليب الأحمر، بعد أن كانت لسنوات طويلة غير معترف بها نظراً لاعتراض الدول العربية والإسلامية الأعضاء، والمبرر الذي قدمته السلطة كالعادة "مصلحة الشعب الفلسطيني"، وما كانت المصلحة؟ وعود صهيونية بتسهيل مرور الهلال الأحمر الفلسطيني على الحواجز الصهيونية.
الخلاصة:
رأينا كيف تفضل أمريكا ممارسة ضغوطها وتمرير مشارعيها من خلال وكلاء محليين من أنظمة وحكومات عربية، كما رأينا كيف أن السلطة الفلسطينية هي في واقع الأمر رهينة تمرر المطالب الصهيونية باسم مصلحة الشعب الفلسطيني إلى العالم العربي والإسلامي، حيث تتجاهل الأنظمة أن هذه مطالب محتجز الرهينة وليس مطالب الرهينة الحقيقية.
ونحن هنا لا نبرئ السلطة فإن كانت لا تستطيع الدفاع عن مصالح وثوابت الشعب الفلسطيني، فيمكن لقادتها أن يعتزلوا ويقولوا الأمر فوق طاقتنا، وأضعف الإيمان أن يعترفوا بأنهم رهائن وأن قرارهم ليس بيدهم، لا أن يكابروا ويصروا على أنهم أصحاب قرار وسيادة، فيما الواقع عكس ذلك تماماً.
كما لا نبرئ الأنظمة العربية فهي قادرة على تقديم الدعم السياسي للسلطة لتنقذها من الارتهان للقرار الصهيو- أمريكي، وبدلاً من تبرير مواقف السلطة ودعم مواقفها الانبطاحية بإمكان الأنظمة أن تقدم دعماً حقيقياً للسلطة، وفي مواجهة الكيان (وليس في وجه حماس)، لا نريد تحريك الجيوش ولا نريد حرباً اقتصادياً، نريد تحركاً على غرار ما حصل في قضية تقرير جولدستون.
أثبت تمرير تقرير جولدستون أنه يمكن الخروج عن طوع أمريكا والكيان بدون أن تنهد الجبال أو تسقط السماء، فعندما يتكاتف الجميع معاً لا يستطيع الأمريكان فعل شيء، قد لا يتفق العرب اليوم على تصور شامل لحل القضية الفلسطينية، لكن يستطيعون أن يتفقوا على قضايا محددة تجمعهم؛ فلماذا لا يأتوا لمحمود عباس ويقولوا له: "وافق على مصالحة مع حماس لا تلتزم بشروط الرباعية الدولية"، وليبلغوا موقفهم هذا لأمريكا ولوسائل الإعلام أيضاً، فهل سيأتي الطوفان من بعد ذلك أم تضطر أمريكا للخضوع؟
يمكن لخطوة بسيطة مثل هذه أن تحل عقدة عقد ملف المصالحة الوطنية الفلسطينية- أي الالتزام بشروط الرباعية، لحود استطاع أن يمرر موقفه مرتين متحدياً قوى عظمى وأقليمية، وموريتانيا استطاعت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان دون أن ينزل سخط الدول الكبرى عليها، والسلطة استطاعت تمرير تقرير جولدستون دون أن ينفذ الصهاينة تهديداتهم، إذن مجال مقاومة الضغوط الأمريكية مفتوح لكن متى نتحرك؟
رابط الحلقة من زيارة خاصة (إميل لحود):
http://aljazeera.net/NR/exeres/101B3...6-5164F453AE35
بقلم: ياسين عز الدين
دار كلام كثير حول دوافع السلطة ومحمود عباس للرضوخ أمام الطلب الصهيوني لتأجيل مناقشة تقرير جولدستون وذهبت بعض التحليلات لاختزالها في شركة جوال أو تسجيلات تدين عباس، إلا أنه من السذاجة اختصار القضية بذلك، فما رأيناه هو استمرار لنهج عمل السلطة منذ إنشائها قبل 15 عاماً.
ولكي نفهم الكيفية التي يمارس الأمريكان من خلالها الضغوط على السلطة يوضح لنا الرئيس اللبناني السابق إميل لحود الأساليب الأمريكية عبر رواية تجربته الشخصية مع هذه الضغوط، وقد روى لنا تجربته في برنامج "زيارة خاصة" الذي عرض على فضائية الجزيرة في 21/3/2009.
تجربة لحود مع الضغوط الأمريكية:
تحدث الرئيس لحود في البرنامج عن تجربته في الرئاسة، وكان مما تحدث عنه تجربتين: التجربة الأولى بعيد الانسحاب الصهيوني من جنوب لبنان عام 2000م، حيث كانت تجري اتصالات في الأمم المتحدة لاستصدار قرار بأن الصهاينة قد أتموا انسحابهم من جنوب لبنان وأنهم ألتزموا بقرار 425.
اتصلت وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين أولبرايت بالرئيس لحود لتقنعه بأن يقول لبنان في مجلس بأن الانسحاب تم، ونشير هنا إلى أن الحديث لم يكن عن مزارع شبعا فتلك قضية خلافية خارج النقاش بل كان عن الانسحاب من باقي مناطق جنوب لبنان إلى ما يسمى الخط الأزرق، حيث كانت الحكومة اللبنانية تقول أن الانسحاب لم يتم.
طلب لحود من أولبرايت أن يتأكد من الأمر وبالفعل اتصل بأحد الضباط المختصين وقال له الضابط أنه بقي 18 كيلومتر مربع لم يتم الانسحاب منها، أخبر لحود أولبرايت أنه لا يستطيع لأن الانسحاب لم يتم والقصة واحد اثنين ثلاث.
لم تقنع أولبرايت بجوابه وبدأت بمحاولات لإقناعه بالموافقة على القرار، بل عرضت عليه أن يخرج أمام وسائل الإعلام ويقول أن الانسحاب لم يتم، لكن في نفس الوقت يطلب من سفيره في الأمم المتحدة أن يضع ورقة بيضاء (أي أن يمتنع)، طبعاً لحود رفض واستمر النقاش طويلاً تخلله تهديدات من الوزيرة الأمريكية التي قالت له في آخر المطاف هل تعلم مع من تتكلم؟ أنت تتكلم مع وزيرة الخارجية الأمريكية ومع الأمم المتحدة، هل تعرف ماذا يعني هذا؟ لحود لم تعجبه كلماتها وأجابها بأن هذا معناه أن الساعة الرابعة صباحاً وأنا نعسان وأغلق الهاتف في وجهها.
وكانت نتيجة رفضه للضغوط الأمريكية أن اضطر مجلس الأمن إلى إرسال خبراء مساحة إلى جنوب لبنان لترسيم الخط الأزرق على الأرض وباستخدام أكثر الأجهزة تطوراً لرسم الخط الأخضر، واضطر الصهاينة للإذعان، واستعاد لبنان الـ 18 كيلومتر مربع التي كان يطالب بها، تصوروا لو قبل لحود بالضغط الأمريكي، ما كان سيحصل؟
أترككم مع بعض مما قاله في البرنامج:
.... قالت لي طيب عملت شغل كثير منيح وكذا بس بدنا نخلص كلنا مجتمعين، قلت لها ما فيني، قالت لي كيف؟ قلت لها أنا لو ملكي بأعطيك إياها -مثل كل مرة بأقول لهم- بس هيدا مش ملكي ما فيني، إذا في متر بدي أقول لك ما فيني، في 18 مليون متر بدنا إياهم، قالت بس كلهم بدهم يمشوا، أول يوم فقط وقتها روسيا كانت قائلة لا، قلت لها أنا ما رح أقبل، قالت لي اطلع قل بالإعلام مش قبلان ونحن منعملها وسفيرك بيحط ورقة بيضاء، قلت لها بدي أحط ورقة أنه ما صار، ضلت من الساعة 11 للساعة 4 الصبح...
التجربة الثانية له كانت مع القمة العربية في بيروت عام 2003، والتي شهدت طرح ما تسمى المبادرة العربية للسلام، فتكلم الرئيس لحود كيف عرض عليه وزير الخارجية السعودي المبادرة، فقال له لحود لكنها لا تحتوي على حق العودة، فقال له الوزير السعودي الجملة المعتادة "العرب كلهم موافقين"، إلا أنه أصر على تضمين حق العودة، كما رفض لحود أن يلقي عرفات كلمة في افتتاحية المؤتمر عبر الأقمار الصناعية، لأنه خشي أن يوافق عرفات على المبادرة العربية كما هي (دون حق العودة)، ويومها خرج لحود بحجة أنه ربما تظهر نجمة داوود خلف عرفات وهو يلقي الكلمة.
لم يتركه المعتدلون العرب وبدأوا بمناقشته ومحاولة إقناعه بتمرير المبادرة العربية، نسوا صديقهم عرفات الذين كانوا راهنوا عليه أن يحرج لحود بإعلانه الموافقة على المبادرة العربية، كان وزراء الخارجية العرب يصرون على تمرير المبادرة كما هي فيما كان لحود يصر على إضافة حق عودة اللاجئين، ويروي لحود واصفاً التدخل الأمريكي السافر والمباشر في المشاورات التي سبقت القمة:
.... قلت له مائة مرة تفشل [القمة العربية] ولا أنا أحمّل ضميري وأحط شيئا ضد الدستور اللبناني، ما رح أرضى. صار الأخذ والرد من الثمانية ..... ويبقى يتصل الوزير سعود فيصل بباول [وزير الخارجية الأمريكي[ وباول ما بعرف مع مين يتصل ويرجعوا لعنا، آخر شي قال منحطها [أي فقرة حق عودة اللاجئين] خارج المبادرة، قلت له لا، العرب بدهم يقبلوا بالمبادرة العربية بده يكون بقلبها، رجعنا نصف ساعة مشارعة، آخر شيء صارت 11 ونصف قال خلص منحطها، حطيناها....
وشرح لحود كيف كانت وزارة الخارجية توجه وزراء الخارجية العرب عن بعد، ففي لحظة من اللحظات كان الوزراء يتركون المشاورات ليتصلوا بوزير الخارجية الأمريكية ليطلبوا رأيه (أو إذنه سموها كما شئتم)، وهو ما يذكرنا بزيارة عمر سليمان بعد انتخاب أوباما إلى الولايات المتحدة لكي يطلب الإذن من الأمريكان إبرام مصالحة فلسطينية لا تتضمن الاعتراف بشروط الرباعية، فكان أن رد على أعقابه بإصرار الإدارة الأمريكية على التمسك بها.
السلطة الفلسطينية والضغوط الأمريكية:
لاحظنا كيف يتعامل الأمريكان ويمارسوا ضغوطهم عن بعد وبعيداً عن الأنظار، كما رأينا كيف عرضت أولبرايت على لحود أن يخرج على وسائل الإعلام ليعارض فيما يوجه مندوبه في مجلس الأمن ليمرر القرار.
ونجد نفس النمط مع السلطة الفلسطينية، فكلنا سمعنا عباس يصرح أنه لن يجتمع مع نتنياهو إلا إذا جمد الاستيطان، وعندما ضغط عليه الأمريكان واجبروه على حضور القمة الثلاثية في نيويورك، اضطر للاذعان لكن اعلامياً حاول الظهور بمظهر المتمسك بموقفه وأن هذا ليس تفاوضاً بل عرض لمطالبنا، القشور لدى الأمريكان ليست مهمة، المهم أنه التزم وحضر، وبعدها ليصرح للإعلام ما شاء.
في نهاية الحرب على غزة قدمت قطر والباكستان مشروع قرار لإدانة العدوان الصهيوني في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبتوجيه أمريكي تدخلت السلطة وأسقطت المشروع، وطلبت من مؤيدي المشروع التراجع عنه، وقدمت مشروع قرار توافقت عليه مع الاتحاد الأوروبي لا لون له ولا طعم ولا رائحة، بحجة أنه يجب عدم خسارة أصوات أوروبا - أما خسارة مضمون القرار فليست مشكلة! ويومها امتنعت عدد من الدول مثل إيران وفنزويلا وأندونيسيا عن التصويت على القرار المائع لأنه لم يدن الكيان الصهيوني بشكل واضح.
عدم خسارة أصوات أوروبا هي الطريقة المحترمة للقول أنهم خضعوا للضغوط الأمريكية، وتعدل القرارات بحيث لا تتجاوز خطوطاً حمراء تضعها أمريكا والكيان الصهيوني، ومثل هذا الدور كانت السلطة تريد لعبه في مجلس حقوق الإنسان عندما قبلت تأجيل التصويت على قرار اعتماد تقرير جولدستون بهدف الحصول على تأييد الدول العظمى، بمعنى آخر تمييع القرار وإفراغه من مضمونه.
وبما أن منظمة التحرير (وحركة فتح) وضعت نفسها رهينة بيد الاحتلال عندما عادت وفق اتفاق أوسلو، فإنها قدمت نفسها أداة طيعة بيد الأمريكان والصهاينة، ابتداءً من تشجيعها للدول العربية من أجل إقامة علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني بحجة مساعدة عملية السلام ففتحت الطريق أمام الصهاينة لافتتاح المكاتب التمثيلية في المغرب وتونس وقطر، وفتح سفارة في موريتانيا.
ووصل الأمر عندما تزايد الضغط الشعبي الموريتاني من أجل إغلاق السفارة الصهيونية خلال انتفاضة الأقصى نصح أبو مازن للمسؤولين الموريتانيين أن لا يغلقوها لأن وجدها "يخدم القضية الفلسطينية"؛ أي يخدم استمرارية السلطة، فالرهينة دائماً تطرح مطالب محتجزها. وبقيت السفارة إلى أن وقع العدوان على غزة بداية العام الحالي ولم يعد مقبولاً لدى القوى السياسية والشعبية الموريتانية مثل هذه المبررات، وأغلقت السفارة دون اعتبار لموقف السلطة.
ولا ننسى دور الهلال الأحمر الفلسطيني التابع للسلطة في إدخال منظمة "نجمة داوود الحمراء" في الجمعية العامة للهلال الأحمر والصليب الأحمر، بعد أن كانت لسنوات طويلة غير معترف بها نظراً لاعتراض الدول العربية والإسلامية الأعضاء، والمبرر الذي قدمته السلطة كالعادة "مصلحة الشعب الفلسطيني"، وما كانت المصلحة؟ وعود صهيونية بتسهيل مرور الهلال الأحمر الفلسطيني على الحواجز الصهيونية.
الخلاصة:
رأينا كيف تفضل أمريكا ممارسة ضغوطها وتمرير مشارعيها من خلال وكلاء محليين من أنظمة وحكومات عربية، كما رأينا كيف أن السلطة الفلسطينية هي في واقع الأمر رهينة تمرر المطالب الصهيونية باسم مصلحة الشعب الفلسطيني إلى العالم العربي والإسلامي، حيث تتجاهل الأنظمة أن هذه مطالب محتجز الرهينة وليس مطالب الرهينة الحقيقية.
ونحن هنا لا نبرئ السلطة فإن كانت لا تستطيع الدفاع عن مصالح وثوابت الشعب الفلسطيني، فيمكن لقادتها أن يعتزلوا ويقولوا الأمر فوق طاقتنا، وأضعف الإيمان أن يعترفوا بأنهم رهائن وأن قرارهم ليس بيدهم، لا أن يكابروا ويصروا على أنهم أصحاب قرار وسيادة، فيما الواقع عكس ذلك تماماً.
كما لا نبرئ الأنظمة العربية فهي قادرة على تقديم الدعم السياسي للسلطة لتنقذها من الارتهان للقرار الصهيو- أمريكي، وبدلاً من تبرير مواقف السلطة ودعم مواقفها الانبطاحية بإمكان الأنظمة أن تقدم دعماً حقيقياً للسلطة، وفي مواجهة الكيان (وليس في وجه حماس)، لا نريد تحريك الجيوش ولا نريد حرباً اقتصادياً، نريد تحركاً على غرار ما حصل في قضية تقرير جولدستون.
أثبت تمرير تقرير جولدستون أنه يمكن الخروج عن طوع أمريكا والكيان بدون أن تنهد الجبال أو تسقط السماء، فعندما يتكاتف الجميع معاً لا يستطيع الأمريكان فعل شيء، قد لا يتفق العرب اليوم على تصور شامل لحل القضية الفلسطينية، لكن يستطيعون أن يتفقوا على قضايا محددة تجمعهم؛ فلماذا لا يأتوا لمحمود عباس ويقولوا له: "وافق على مصالحة مع حماس لا تلتزم بشروط الرباعية الدولية"، وليبلغوا موقفهم هذا لأمريكا ولوسائل الإعلام أيضاً، فهل سيأتي الطوفان من بعد ذلك أم تضطر أمريكا للخضوع؟
يمكن لخطوة بسيطة مثل هذه أن تحل عقدة عقد ملف المصالحة الوطنية الفلسطينية- أي الالتزام بشروط الرباعية، لحود استطاع أن يمرر موقفه مرتين متحدياً قوى عظمى وأقليمية، وموريتانيا استطاعت قطع علاقاتها الدبلوماسية مع الكيان دون أن ينزل سخط الدول الكبرى عليها، والسلطة استطاعت تمرير تقرير جولدستون دون أن ينفذ الصهاينة تهديداتهم، إذن مجال مقاومة الضغوط الأمريكية مفتوح لكن متى نتحرك؟
رابط الحلقة من زيارة خاصة (إميل لحود):
http://aljazeera.net/NR/exeres/101B3...6-5164F453AE35